ايطاليا

للساحرة المستديرة عاشقات (١)

17من تموز صيف 1994، كنت الطفلة الوحيدة بين مايقارب العشرين شخصاً جميعهم متسمرون أمام شاشة التلفاز في باحة بيتنا القديم، جهزت أمي وزوجة عمي كل مايلزم من فاكهة وشراب قبل البداية، أنا وعمي الأزرقان الوحيدان وسط حشد من اصفرار المشجعين، هو نهائي كأس العالم بين إيطاليا والبرازيل.
لم يك النهائي هو حكايتي مع البداية فقد علمت بأنني أشجع الطليان لحظة سدد روبرتو باجيو هدف التعادل في مرمى نيجيريا قبل نهاية المباراة بتسعين ثانية وعاد ليحسمها بهدف ذهبي في الوقت الإضافي حينها فقط عرفت بأنني غرقت في شغف كروي لم أبحث له عن تفسير منطقي.
بين أخذ ورد من الجميع عن الفرص المهدورة وعن حظ الايطاليين كنت أنا أغلق فمي وأفتح قلبي وعيني ورئتي بذات اللحظة مع كل ضربة تشكل خطراً من أحد الفريقين، هاقد وصلنا لركلات الترجيح وتجهز الحارسان، ذاكرتي الطفولية التي كرهت قميص تافاريل الشبيه بشجرة استوائية وتلك الضربة الأولى التي أهدرها كابتن الاَزوري باريزي، يعود باليوكا بكل مايملك من روح قتالية ليصد ضربة من سانتوس البرازيلي.

كنت أفكر بصمت أن كيف لكل الحاضرين أن يحتفلوا بضربة أهدرها لاعب ولم يصدها حارس ولايحتفلون بحارس صد هدفاً بمجهود شخصي، كان الفارق بداخلي يزداد حسماً بأنني أعشق هذا الأزرق عشقي للسماء الدمشقية في ليل صيفي، لم أكره البرازيل يومها ولم أنكر لعبهم الجميل، كل مافي الأمر بأنني لاأشعر بالانجذاب لطريقتهم الاستعراضية كان يغريني ذاك النفس القتالي لدى إيطاليا فكانوا بنظري كجنود يدافعون عن اَخر قطعة أرض يمتلكونها بكل مالديهم من عزم وتصميم.

هاقد انتهى كل شيء، لقد ضيع باجيو الضربة الأخيرة وبدأ الاحتفال الهستيري أمام غضب عمي بسبب شماتة الجميع به وصمتي أنا الذي انكسر بدموع حارقة حينما سخر أحدهم من تشجيعي للإيطاليين “قلتلك لاتشجعي أبو شعر أفكح”، واقع الأمر بأنني عانيت استغراباً من أنهم حملوا باجيو الخسارة، فهناك لاعبون اَخرون قد ضيعوا ركلات ترجيح في هذا النهائي ….والدي الذي أحزنته رؤية دموعي الحارقة احتضنني هامساً “رح اخدك نحضر باجيو بنص ايطاليا لابقى تبكي الطابة كلها هيك ربحنا اليوم منخسر بكرا..”.

دخلت إلى غرفتي لأفتح دفتري الصغير الذي كان بمثابة مدونة لذاك الكأس “أسماء اللاعبين، من سدد ومن تصدّى، كيف اغتالوا اسكوبار لاعب كولومبيا، كيف حرموا مارداونا من امتاعنا بالمزيد”، سجلت تفاصيلاً كثيرة ولكنني كتبت جملة يومها سأنقلها بحرفيتها الطفولية” 17 تموز يوم حزين خسرت ايطاليا وليس باجيو”.

مرت سنة بعدها، تابعت فيها لعب كرة القدم في المدرسة وفي الحارة بقميص الرقم عشرة الذي اشتراه لي خالي وكان صبيانياً بنظر الجميع، خالي الذي شجع شغفي بأحسن الطرق وأجملها ،هو وصديقه الصحفي الشاب النبيل كانا في كل فترة يرويان لي كثيراً من التفاصيل الكروية بغض النظر عن ميولهما اللاتينية، بعدها بسنة مرة ثانية ربما كانا في شديد الاستغراب أنني شجعت المان يونايتد ضد جوفنتوس الايطالي، حينها فقط روى لي النبيل قصة كارثة ميونيخ وهنا بدأ كل شيء وقد يكون هذا جواباً عن كيف جمعت بين حبي لطريقة الانكليز بلعبهم الهجومي المفتوح وبين المدرسة الدفاعية للإيطاليين.

والاَن أعود لوعد والدي الذي كبرت معه ومازلت مصرة على تصديقه وتمسكي به، مازلت أذكر بعد هذا الكأس بسنوات كيف كان أبي قد مرض مرضاً شديداً جعله طريحاً لفراشه لأيام عديدة، دخلت يومها وشددت على يديه باكية “بابا مو وعدتني تاخدني نحضر باجيو بعرف ماعاد فينا بس بعرف رح تاخدني نحضر الاَزوري أو المان يونايتد يلا قوم لاتمرض هيك”.

ربما قد يتبع..